دردشة: أسباب تدهور مستوى مهنة المحاماة فى مصر.
.
ليس المقصود من هذا المقال النيل من سمعة المحامى المصرى, فهو مواطن يعانى و يقاسى ما يعانيه بقية الشعب. و يعمل فى ظل ظروف مجحفة, و مناخ أصبحت فيه كلمة القانون لا معنى لها.
بصفة عامة, نلاحظ تدهور فى الثقافة المهنية, فما يُقال عن مستوى مهنة المحاماة يمكن أيضا أن يعكس ما تعانيه مهن أخرى, مثل الطب, و الهندسة.
و ليس من السهل وضع أصبع على سبب واحد, أو عدة أسباب منفردة, بل إن المشكلة سببها ليس فقط تعدد, بل تشابك هذه الأسباب.
دعونا أولا ندرس المكونات الأساسية لمهنة المحاماة:
العنصر الأول.... و الأساسى هو المواطن, الذى سيصبح محاميا
العنصر الثانى ,.. نظام التعليم بصفة عامة,
العنصر الثالث ,.. المنهج الذى يتم تدريسه فى كليات الحقوق,
العنصر الرابع,... مدى تلاحم هذه المناهج مع الواقع السياسى و الإجتماعى فى مصر.
العنصر الخامس,... تدريب المحامى,
العنصر السادس,... النقابات المهنية, ودورها فى تطوير و تنوير أعضائها ثقافيا و مهنيا,
العنصر السابع,.... فوضى النظم القانونية التى يتعامل معها المحامى , و دور الدولة فى خلق هذه الفوضى.
العنصر الأول: المواطن
يعيش المواطن المصرى فى ظروف صعبة, و لكى يصبح محاميا, عليه أن يمر بجميع مراحل التعليم , الى أن ينهى دراسته الجامعية, و متى تم له ذلك, يفيق فجأة على الواقع المر, فلقد ضحت أسرته بالكثير الى أن وصل الى ما ظن أنه بداية الطريق لحياة أفضل, و لكن الواقع المر يقول أنه بدأ الطريق فى رحلة العذاب, و البهدلة, و الذل, بحثا عن محام يحتضنه فى فترة التدريب, أو وظيفة كتابية تسمح له أن يشترى بمرتبها بعض أرغفة من العيش.
إذا كان هذا الشخص قد ولد فى أسرة محظوظة, أو كانت لأسرته علاقات صداقة و مصالح مع بعض العناصر التى يطلق عليها " سيادية" فإن فترة المعاناة ستقل, و سوف يجد بعض الأبواب مفتوحة أمامه.
إذن فالدرس الأول الذى سيتعلمه المحامى الناشئ هو إنعدام العدالة الإجتماعية, و أن ما يجعل المواطن شخصا ناجحا لا يتواجد فيما درس, أو تعلم, بل فى المركز أو الموقع الإجتماعى الذى ينتسب اليه.
العنصر الثانى: نظام التعليم بصفة عامة.
يعتمد نطام التعليم عندنا على طرق ووسائل بدائية, و أخطرها الإصرار على أن يحفظ الطالب المقرر, و أن لا يخرج عما تحدده الوزارة كنطاق لما يجب أنيدرسه. فضلا عن قتل أو تحجيم ملكة البحث أو الإبتكار, و ياويل للطالب الذى يشير أو يستعمل مراجع تخالف فى الرأى, أو لا تتفق مع ما يريد مدرس المادة إملائه على طلبته.
فى هذا المناخ, يشعرالطالب الذى تمكن من دخول الجامعة, أنها ليست سوى إستمرارلحصص تلقين معلومات تافهة, لا تفيد الشخص متى تم نجاحه فى نهاية العام, حيث أن هذه المعلومات لم يتم تحصيلها عن طريق البحث العلمى , و متى انتقل الى مرحلة أخرى, تبخرت كل المعلومات المخزونة.
العنصر الثالث: مناهج كليات الحقوق.
لا أعتقد أن ما يتم تدريسه فى كليات الحقوق يمكن أن يشارك بجدية فى تكوين شخصية المحامى الناجح, فعادة يتم حشو المقرر بمواد نظرية رتيبة مملة, من المطلوب منهم أستيعابها, و لكن ليس بالضرورة فهمها, أو فهم علاقتها بالأمور التى سوف تطرح عليه فى خلال ممارسته للمهنة.
و فى الدول الغربية, تعتمد دراسة القانون على الوسائل الكلينيكية, و الممارسة العملية فى أثناء طلب العلم, أو تطبيقه.
كذلك توجد مشكلة الأمكانيات, فالكتب التى تتناول الموضوعات القانونية التى يحتاج الطالب الى الرجوع اليها ليست متوفرة فى مكتبات الجامعة, و يعتمد الطالب أساسا على مذكرات الأستاذ, التى تسمح له ( أى الأستاذ) بإضافة بعض الأوف من الجنيهات فى رصيده فى البنك. و قد زرت بعض المدارس الإنجليزية لإلقاء بعض المحاضرات فى القانون على طلبة الصفوف النهائية, ووجد أن نعرفتهم بالقانون قد تفوق ما يدرسه طالب السنة الأولى فى حقوق مصر , و بعد زيارة مكتبة المدرسة, و رأيت الكم من الكتب المتاحة للطلاب مجانا كمراجع, عرفت سبب خيبتنا.
و قبل أن أترك هذه الفقرة, أريد أن اضيف شيئا هاما بالنسبة الى القبول فى كليات الحقوق فى مصر:
أغلب الذين يتقدمون الى كليات الحقوق هم الحاصلون على شهادة الثانوية العامة , القسم الأدبى, و أحيانا العلمى, و لكن المجاميع المحددة كحد أدنى تجعل عدد المقبولين أكثر مما يمكن أن تستوعبه المهنة.
كذلك, فإن إنخفاض المستوى الثقافى نسبيا , بالمقارنة لمن يريد دراسة القانون فى إنجلتر مثلا, ربما يفسر سر ضعف مستوى خريجى الحقوق فى مصر مهنيا.
ففى إنجلترا, لا يقبل فى كليات القانون إلا ذوى المجاميع المرتفعة جدا, و تعادل المطلوب للقبول فى كليات الطب, و تفوق المطلوب لكليات الهندسة. و يرجع ذلك لأهمية القانون فى المجتمع الإنجليزى, الأمر الذى يُرجح أن إهتمامنا بالقانون فى المجتمع المصرى لا يرتقى الى نفس المستوى.
العنصر الرابع: مدى تلاحم دراسة القانون مع الواقع المصرى,
بينما توحى دراسة القانون بفكرة المساواة, و العدل, و التكافؤ الإجتماعى, و النظام, نرى أن خريج الحقوق , عند بدأ حياته العملية, سيكتشف أن هذه المبادئ ليست سوى شعارات لا معنى لها, و أن النزاهة و الشرف, واحترام القانون لا صلة لها بأكل العيش, و أن البقاء للأقوى, و الأغنى, و المُتصل.
كذلك سيرى أن القانون الذى درسه كنموذج لما يجب أن تسير عليه الأمور, يتم ضربه بالنعال فى كل خطوة من خطوات حياته العملية, بل سيجد أن حُماة القانون أنفسهم, هم أول من يهدره, و يغتاله.
العنصر الخامس: تدريب المحامى.
فى الدول الغربية, ليس الحصول على عضوية نقابة المهنة هو مفتاح العمل بهذه المهنة, بل عليه قبل الإنضمام اليها الحصول على بعض الدراسات العملية, و منها الإلتحاق بمراكز تدريب مهنى للمؤهلين.
و لا أدرى ما هو الموقف حاليا فى مصر, فعندما بدأت حياتى كمحامى تحت التمرين, قدمت طلبا الى النقابة, و دفعت الرسوم, ثم حضرت جلسة حلف اليمن فى محكمة القضاء العالى, ثم حصلت على كارنيه( مازلت أحتفظ به للذكرى) يصفنى بكلمة:
السيد الأستاذ. المحامى
و هكذا أصبحت سيدا, و أستاذا (ألقاب ببلاش على رأى المنولوجست المرحوم إسماعيل ياسين) و محاميا. هكذا, فى ضربة واحدة.
و قد كان معى فى هذه الدفعة عدد كبير من خريجى الجامعة, كان منهم شخصيات تعرفونها جميعا, و لم يمارس أى منهم مهنة المحاماة يوما واحدا بعد ذلك.
كان على أن أجد محامى كبير يمكننى التدريب فى مكتبه, و لعلى كنت محظوظا بوجود هذا الشخص, و ليس بكونى محاميا, حيث التحقت بمكتبه, و تم تدريبى!!!.
طبعا كلمة تدريب هنا لا تعنى شيئا, فأنت تحت التدريب لست سوى عامل سخرة, بل أحيانا, من المتوقع منك أن تدفع خلو رجل لكى تجد من يُدربك.
هذه الأمور يوجد مثلها فى إنجلترا, و لكن مهنة المحاماة لا تستقطب هناك سوى القادر, حيث أن تكاليف الدراسة باهظة, و مستوى القبول عال, و التدريب شاق و جدى, و علمى, و مُكلف, و لكن فى النهاية, يتواجد المحامى الناجح, السعيد فى مهنته, و الفخور بوضعه فى المحتمع.
العنصر السادس: نقابة المحامين, و النقابات عموما.
لا أدرى لماذا كلما قرأت أو سمعت كلمة نقابة , أحس أنى أقرأ أو أسمع عن سراب لا وجود له. فنقاباتنا المهنية لا يرتقى نشاطها الى مستوى النقابات المهنية فى الدول المتقدمة.
فمهمة النقابة عموما هى حماية العضو, و الدفاع عن مصالحه, و تأمين مستقبله, و حماية المهنة من الدخلاء.
و لكن نقاباتنا أصبحت منبرا لترويج مبادئ طائفية و دعايات سياسية, و تخلت عن وظيفتها فى تطوير أداء المهنة, و أنقلب عديد منها الى نوادى إجتماعية ترفيهية, لا صله بما تقوم به بالغرض الذى من أجله أنشئت النقابات.
و تشكلت الشلل و التحالفات فى مجالس إدارة النقابات, و انشغلوا بخلافاتهم, مضحين بخدمة الأعضاء, إشباعا لطموحاتهم, و أجنداتهم الخاصة.
و قد هالنى مدى تخلف نقابة المحامين فى متابعة التقدم العلمى و التكنولوجيا الحديثة, لكى تُحدث أسلوب إتصالها باعضاء النقابة. فليس للنقابة موقع على الإنترنت, بل لم اتمكن من الحصول على عنوان الكترونى لهم, فى الوقت الذى تمتلئ صفحات الإنترنت بإعلانات عن مؤسسات قانونية تعلن عل بضاعاتها فى غيبة من النقابة النائمة فى السبات,
و فى نفس الوقت , نرى النقابات المهنية فى الدول الغربية تقدم خدمات قيمة لأعضائها عبر الإنترنت, بما فيها تقديم إمكانيات للبحث العلمى الذى يُمكن عضو النقابة من الإتصال بها, و تجديد العضوية, و الحصول على الخدمات, و المعلومات بمجرد الضغط على أزرار الكمبيوتر.
هل ترون مدى تخلفنا؟؟؟
العنصر السابع: فوضى القانون فى مصر.
يعتبر القانون المصرى من أصعب القوانين فهما فى العالم, و لقد مرت مصر بفترات تم فيها تغيير الدستور أكثر من مرة, و تلى ذلك تغيير عديد من القوانين, التى إستم إعادة التغيير فها, و الإضافة اليها, حتى زالت معالمها الأصلية, و أصبحت مثل الكشرى, الذى يحتوى على مكونات غير متجانسة, لا يجمعها سوى وجودها فى وعاء واحد.
ثم جاء الدستور الأخير الذى خلق مسخ أسمه مجلس الشورى, و ابتدع النظام محاكم ليس هناك حكمة فى إنشائها سوى زيادة قبضة يد الحكومة على رقبة الشعب.
و الآن نسمع عن الإصلاحات المزعومة, و النية فى الغاء محاكم أمن الدولة. و لكن فى نفس الوقت, لم يتوقف إسهال إصدار قوانين جديدة كل يوم, كأن القوانين التى نعانى منها الآن ليست كافية لكى تجعل من القانون المصرى أضحوكة, بل مأساة.
فى ظل هذه الفوضى, مطلوب من المحامى الناشئ أن يُحلل, و يستنتج, و يقارن, و يستخلص, و يبرر, و يتمعن, و يُقدر, الموقف المطروح أمامه فى قضية ما, و بدون تأهيل هذذا المحامى الناشئ لكى يتعامل مع هذه الفوضى, و كأننا نطلب من محاسب أن يتعامل مع أسرار بناء القنبلة الذرية, أو الهيدروجينية.
لهذه الأسباب مجتمعة, تدهورت مهن كثيرة, و خاصة مهنة المحاماة.
و