حدثنا عيسى بن هشام انه في بلدٍ لا يكون إلا في الأحلام حتى لا يلاحقنا أحدٌ من أولاد اللئام :
انه رأى فيما يرى النائم متوجهاً مع صاحبه الى إحدى المحاكم ، فوجد في ساحتها أقواماً ، وجوههم مكفهرة و ابدانهم مقشعرة ، أنفاسهم مقطوعة و أكفهم مرفوعة ، و شاهدَ باطلاً يُذكر و حقاً يُنكر ، و شاكياً يتوعد و جانياً يتودد ، و شاهداً يتردد و شرطياً يتهدد ، و حاجباً يستبد و محامياً يستعد ، و فتاة تتلهف و شيخاً يتأفف.
و رأينا المحامين ، يشحذ كل منهم لسانه و يقدح جنانه ، استعداداً للنزال في ميادين المقال ، و تأهباً للدفاع في ميادين النزاع .
فإذا به قد ارتج المكان و تماوج الزحام ، و أقبل القاضي في طريقه ماضي ، فتى من اجمل الفتيان قد أرسل لحيته قبل الآوان ، يتموج تحتها ماءُ الشباب كما يتموج الضوءُ وراء السحاب ، و هو في عنفوانِ شبابه و صبا أيامه ، يتألق وجهه حسناً و يشابه في القَد غصناً ، كأنه طائرٌ في مشيته من نشاطه و خفته .
فقال لي صاحبي : من هذا الأمير و الكل وراءه يسير ، فقلت له : هو من حاز الشهادة فاستحق النيابة .
فقال لي : نِعم المنزلةَ عند الله الشهادة ،فأصحابها أهل الريادة ، و لها في الجنة أعلى الدرجات ، و لكن كيف يكون شهيداً و هو على قيد الحياة .
فقلت له : هذه الشهادة ليست شهادة الجهاد ، بل هي ورقة يتلقاها من العباد ، و القاعدة عندنا
(ان الشهادة بلا علم ، خير من العلم بلا شهادة) .
و تزاحم الناس على بابه و الكل يطلب حسن مآبه.
و اذا بشابين رشيقين ، في قدهما رقيقين ، قد اقبلا يتبختران في مشيتهما و الطيب ينتشر حولهما، يرفعان رأسيهما اختيالاً و لا يلتفتان إلى ما حولهما إعجاباً .
أحدهما يشق الهواءَ بعصاه و الثاني تلعب بالمسبحة يداه ، فشخصت إليهما الأنظار و تحولت نحوهما الأبصار ، و يدفع بالناس الحاجب حتى يصلا الى حضرة النائب ،فقام لهما من مجلسه و أمر الناس بالانصراف من حضرته ، و طويت المحاضر و رفعت المحابر .
فقال لي صاحبي : هل هما مفتشان و على القاضي أميران ...
فقلت له : ما أظنهما إلا زائران ...و للوساطةِ هما طالبان ...
و أردت أن أعرف خبرهما و أقوم بكشف أمرهما ، فاستمعت إلى حديثهما يقولان للقاضي : و هل تُلهي الدعاوي الإنسان عن مجالسة الإخوان ، و غيرك لا تستغرق منه قضايا اليوم أكثرَ من ساعة ،و لا يحتاج لا الى نظارة ولا إلى سماعة ، و يكتفي ان يمر عليها بلحظه معتمدا على توقد ذهنه و كثرة تمرنه، فلا تضيع الزمان و هيا بنا الى منادمة الخلان ، و الكاتب عندك يكفي و هو في العدالة يوفي ،و سيذهب معنا المحامي فلان لكي يقوم بدفع ما ليس بالحسبان .
فسألني صاحبي مستغربا : و كيف يميل من هو قاضي الى مجالسةِ واسطةِ هذا المحامي .
فقلت له :ألم تعلم ان أمنية المحامي أن يكون مصاحبا لكل من هو قاضي ، لعله يصل بواسطة القضاء إلى أعالي الفضاء ، و إن كلفه ذلك ما كلفه و خرج منه ما أسلفه .
و اعلم يا صاحبي أن المحامي الشاطر يكون صديقً للناظر ، و جليس المستشار و نديم القاضي المختار ،كي يُدير الدعوى كما يرغب و لا يعنيه حقٌ يطلب , فيعاقب من يشاء و يبرىء من يشاء ،و ما أعضاء المحاكم إلا طوع إشارته و رهنُ كلمته ، فلا حكمًا إلا بقوله و قضاءاً إلا بأمره ، يجتمع معهم في السهر و السمر ، يشاربهم و يؤاكلهم و يمازحهم ، و كل طلب له يجاب و لو كان من فوق السحاب ، و ليس لأمره من راد ، و كل ذلك بحسب المزاد .
و أجابهم القاضي : انتظرا حتى انهي هذه الدعوى و اقضي فيها بما يكون للناس نعوة .
و جاء الشاهد ...فسأله القاضي : عما يعلمه عن هذه الواقعة ..من مشاهد ...
فأجابه الشاهد : إن للحادثة قصة عجيبة ....فقاطعه القاضي : لا لزوم للاحاديث الغريبة ...و قل لي معلوماتك الرهيبة ...
فأجابه الشاهد : معلوماتي هي أنني .....قاطعه القاضي مستثقلا : لا لزوم لكثرة الكلام ...و اجبني عما سألتك في هذا المقام ..
فأجابه الشاهد : هذا ما افعله ...و إنني قد رأيت .....
فقال القاضي متململا : قلت لك إنني لا اقبل التطويل و الشرح ... انصرف فلا فائدة من هذا الطرح ..
و ليتفضل محامي الدفاع مع الاختصار ... و تنحنح المحامي باحتضار و قلب في أوراقه قائلا : إننا نتعجب من هذا الاتهام ..
فقاطعه القاضي مشمئزا : اختصر يا حضرة المحامي الهمام...و ادخل في الموضوع ...و باشر في الشروع..
فقال المحامي متعلثماً مضطرباً : ان هذا المتهم ....
فقاطعه القاضي نافذاً صبره : قلنا لك اختصر ...
فقال المحامي و هو يتصبب عرقا : لما كان المتهم...
فضرب القاضي بيده على الطاولة قائلا : المحكمة تنورت .......و القناعات ترسخت ...
فقال المحامي ساخطاً : نلتمس البراءة.. و الرحمة ..
و نطق القاضي بالحكم فاذا هو بالحبس و الغرم ....
و طمأن المحامي موكله انه بالاستئناف سينالُ كُل حقٍ له ، و طلب من موكله تقديم عريضة للتفتيش حتى و لو طلعت على ما فيش .
فقال له موكله: قدمها عني عسى يكون فيها فرج همي ، فأجابه أنه :لا يستطيع تقديمها بنفسه فإن علم القاضي بسعيه انصرف همه الى دعسه ، و تعمد في المستقبل أذاه بسببِ ما اقترفت يداه .
و آن أوان الإستئناف ، فسار المحكوم في طلب العدل و الإنصاف .
و سئل عن رئيس المحكمة ، فأجابوه : إنه كهل عاكف على العبادة ،نطقه أبداً استغفار و شهادة ، يمسي ليله قائماً و يصبح نهاره صائماً ، بين السبحة و أصابعه عهدٌ و ميثاق و بين السجادة و جبهته ارتباطٌ و التصاق .
فنطق الرئيس بعد المداولة و المحاولة ...... براءة ....
و صاح المحكوم : لا أنكر ان العدل محتوم ، و لكنه بطيء لا يحمل عبأه البريء ، و الأجدى أن تكون هذه النهاية هي الحكم منذ البداية ، فلا يلحق بي الهوان و الصِغار و يقع بي الحبس و العار ، بعد أن وقفت موقف التهمة و الإجرام و حل بي ما حل من التعذيب والإيلام